كلمة العدد

الوحدة هي حاجة الأمة في كل زمان ومكان

 

 

 

 

 

       لم توجد ولن توجد في ديانة من الديانات تلك العوامل الكثيرة التي توجد في دين الإسلام لوحدة أبنائه وتضامنهم وتلاحمهم ؛ فالعبادات كلُّها تُشَكِّل صورة للوحدة ، وقبلها تشكّل العقيدة أرضيّة صلبة للوحدة . وجاءت الدعوة في الكتاب والسنة قوية متصلة متكررة للوحدة، مقرونة بالتحذير الشديد الأكيد من الفرقة والشتات ، مؤكدةً أن الفرقة تؤدي بأبناء الإسلام إلى الانهزام وذهاب الريح والحرمان من الثقل لدى المجتمع البشري .

       وظلّ العلماء والمفكرون الصادرون عن روح الشريعة يدعون الأمة عبر التأريخ الإسلامي إلى نبذ الخلاف والتمسك بالوحدة والتجمع تحت راية القرآن والإيمان ، وعلى القاسم المشترك من تعاليم الإسلام المبدئية الأساسيّة ؛ ولكن الدعوة لسبب أو آخر لم تجد استجابة مطلوبة – إلاّ قليلاً جدًّا – من قبل الأمة في معظم المواقف. ولكن التأريخ يشهد أنّ الأمة كلما اتحدّت وتجاوزت الخلافات ، هابتها الأمم والشعوب على وجه الأرض ، وصارت بنيانًا مرصوصًا لم تخترقه الأمم المعادية بكل مؤامرة نسجتها ، وبكل حيلة أعملتها ، وبكل آلة من آلات الحرب والضرب أنتجتها .

       من هنا لم يعمل الأعداء على إنجاز شيء لإفشال الأمة المسلمة ، بمثلما عملت على زرع الفرقة بينها وتشتيت شملها وتفريق جمعها. وقد ركّزوا على هذه الجبهة جميعَ جهودهم وكثّفوا احتيالَهم ، علمًا منهم بأنّ الأمة المسلمة إذا اتّحدت فإن كسرها يستحيل، وإذا اختلفت فإنّ اصطيادها يسهل . وذلك هو الواقع المشاهد اليوم .

       والدعوة في العصر الحاضر منذ سقوط الخلافة العثمانية ، وتمزّق الدول الإسلامية، وابتلاع الاستعمار لمعظم أجزائها وأقطارها ، واستلاب فلسطين وزرع غرس إسرائيل الخبيث في قلبها ، بمؤامرة الغرب المُوَحَّدة ، ارتفعت مزمجرة من قبل رشداء أبناء الأمة من المفكرين والدعاة والكتاب والمؤلفين وبعض السلاطين والقادة الصالحين ، عبر الخطابات والكتابات، والمؤتمرات والندوات ، والحفلات والتجمعات؛ ولكنها لم تؤتِ ثمارها المرجوة. وذلك نتيجة لأسباب ثلاثة أشار إليها أكثر من كاتب إسلامي : (الف) الارتجال والاندفاع وغياب الهدف الاستراتيجي (ب) الانطلاق من فكرة خياليّة لاتمتّ بصلة إلى المجتمع المسلم (ج) عدم وجود التوافق بالقدر الكافي والإيمان بالأهداف بين الأطراف المشاركة في اتخاذ القرار .

       ولهذه الأسباب وغيرها لم تنجح محاولات تحقيق الوحدة . وظلت الأزمة الفكرية والسياسية في الساحة العربية الإسلامية تتفاقم وتشتدّ في العصر الحاضر. والأمة اليوم بأشد الحاجة إلى الوحدة والتخطيط الموحد لمواجهة المؤامرة الصهيونية الصليبية الإسرائيلية الأمريكية الغربية الوثنية العلمانية الدولية التي لم يسبق لها مثيل في الخطر والشر والشمول ؛ حيث بيدو أن القوى المعادية كلها نهضت متحدة متآلفة متعاضدة متماسكة لتبتلع الإسلامَ والمسلمين ، وكأنّها تريد أن تُجرِّب آخر سهم في كنانته ، حتى لاتبقى للمسلمين قائمة .

       وأحسنت رابطة العالم الإسلامي إذ عقدت مؤتمر الوحدة الإسلامية في هذه الظروف القاسية في الفترة ما بين السبت – الاثنين 3-5/ 3/1427هـ ، لتخفف آلام الأمة ، وقلقها المتزايد ، وتغرس في قلبها بعضَ القناعات بمستقبلها الزاهر، إذا سدّدت خطاها ، وعزمت على رأب الصدع ، متجاوزةً الخلافات الفرعية التي ستبقى في صفها ما تبقى هي .

       وأكّد المشاركون في المؤتمر أنّ وحدة الأمة هي مصيرها الحتميّ ؛ حيث لايرجى تخلصها من جميع الأزمات التي تورطت فيها إلاّ بها وحدها ، وأن القرآن الكريم حذَّرَها من الخلاف المشؤوم ، والتشرذم الحالق للخير . إن جميع حقائق القرآن والإسلام وتشريعاته توحّد المسلمين ولاتفرِّقهم ، وإن تعددت الآراء ، واختلفت الاجتهادات، وتنوعت الاستنباطات، وكثرت نتائج تفكيرات المجتهدين والمتعمقين في روح الشريعة .

       وأكد العلماء والدعاة والمفكرون المشاركون في المؤتمر أن التحديات من حول الأمة كثيرة وخطيرة ، فهي بأمس حاجة إلى توحيد صفّها وجمع شملها من أي وقت مضى. وهي بأمس حاجة إلى الاستفادة من دروس الماضي ، واستغلالها لإنقاذ الشعوب الإسلامية من الأخطار التي تحدق بها ، وللحفاظ على هويتها ؛ حيث إن الوحدة هي التي تهيء المناخ الملائم لتتلاقح أفكار أفراد الأمة وتتوحّد أهدافها، فتتمهّد الطريق إلى تحقيق آمالها وطموحاتها . وينبغي أن تقوم الوحدة على قاعدة صلبة من إرادة واعية ، قادرة على استجابة تطلعات الشعوب ورغباتها في ضوء متغيرات العصر والمواقف الدوليّة . كما طالبوا بدعم جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ، والعمل على تطوير آليّاتهما وإصلاحهما ، وتفعيل العمل العربي الإسلامي المشترك ، بعيدًا عن القطرية والمصالح الفرديّة .

       وأحسنوا عندما اقترحوا توحيدَ قطاع البحوث والتدريب لعلاج التخلّف التكنولوجي في العالم الإسلامي ، لاسيّما وإن التدريب التكنولوجي يُمَثِّل العصب الأساسي لتحقيق التقدم الاقتصاديّ . وفي الوقت نفسه أكّدوا على أهمية تفعيل السوق الإسلامية المشتركة ، واحترام الاتفاقيّات التكاملية بين الدول ، مع إيجاد آليّة لمتابعة تنفيذها . وأجمعوا على أن المؤتمر خطوة على الطريق الصحيح ، من شأنها أن تقلِّص العقبات وتحجِّم العوائق التي تعترض سبيلَ الوحدة الإسلامية ، في الوقت الذي تتطلع فيه الشعوب الإسلامية لتتذوّق بصورة عمليّة بعضَ ثمار التعاون بين الدول الإسلامية. وقالوا: إنّه يجب على العالم الإسلامي أن يتعاون في الأمور التي عليها إجماعٌ قبل قضايا الخلاف، لاسيّما وأن الأمور التي يمكن أن تجتمع عليها الدول ليست ثانوية بل أساسيّة وجوهرية تحتاج إلى جهد كبير . وحذّروا من الحملات المعادية لفكرة التضامن الإسلامي والتشكيك فيها ، سواء من الخارج أو من الداخل ، مشيرين إلى أن هذه الحملات تحتاج إلى متابعة ورصد من الأجهزة المعنية لدحضها ، وإبطال مفعولها ، وإزلة سمّها . كما دعوا إلى إعداد الأهبة لمواجهة الحركات المدمرة وعدم الانصياع للشعارات الهدامة والمبادئ المضلّلة التي تطلقها دائمًا الدوائر الصهيونية بهدف إفقاد الأمة الثقةَ المتبادلة وتعطيل إمكانيّاتها . وحذّروا من الترامي في شبكات التوجّهات العصبيّة والمذهبية التي من شأنها بعثرةُ الجهود والأموال فيما لايفيد ديننا أو نهضتنا ، مما يكون له الأثر السيّء على مستقبل العالم الإسلامي وشعوبه . وأكّدوا أن المشكلة ليست في وحدة المسلمين ؛ فهم بطبيعة الحال في وحدة عقائديّة ونسكيّة واحدة ، قرآنُهم واحد ، وسنتُهم واحدة ؛ ولكن المشكلة عند المسلمين في تحويل قيمهم الدينية إلى قيم اجتماعية متحركة فاعلة مؤثرة .

       واعتبروا أن الداء الدويّ اليوم هو عزلة الحكومات عن الشعوب ؛ لأنها خلقت خليجًا بينها وبيــن الشعـوب زادها ضعفًا وزاد الشعوب تفرقًا . وعندما تتم معالجة هذه القضية تنتهي كثيرٌ من الأزمات وتنحلّ كثيرٌ من المشكلات .

*  *  *

       والوحدة المتوخّاة اليوم ، يجب أن تكون شاملة ، فلا تنحصر في إطار العبادات والمناسك، وإنما ينبغي أن تشمل أمور الدنيا كلها من السياسة والاقتصاد والتجارة والتعليم والدراسة وما إلى ذلك ؛ حيث إنّ العالم اليوم يشهد تكتّلات بين الدول والأمم وفي مجالات الاقتصاد والسياسة لمواجهة العولمة وما أفرزته من مجالات تنافسيّة ومعان سباقيّة ومضامين تزاحميّة ، سيكون البقاء فيها للأقوى علميًّا وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا .

       على كل فالوقت يطالب الأمّة أن تتجرد من الأحقاد التأريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية ، والمعاني العصبية ، والرايات الحزبية ، حتى تجتمع على القاسم المشترك الذي يكوّنه لا إله إلاّ الله محمد رسول الله . ولاسيّما لأن الأقوياء اليوم يتّحدون في كل مجال ، ليحقّقوا مآربهم منّا ومن غيرنا .. يتحدون سياسيًّا ، واقتصاديًّا ، وتجاريًّا ، وحتى عسكريًّا ، وحربيًّا . ونرى في المجال الاقتصادي قيام الشركات العملاقة ، المتعددة الجنسيّات ، عابرة القارات ؛ ونرى في المجال الاجتماعي الثقافي أنه تتسلسل المؤتمرات عن المرأة والطفل لتلبيس الحقائق ، وفرض الغزو الثقافي علينا ، والنمط الغربي على شعوبنا ؛ وفي المجال العسكري نرى حلف شمال الأطلنطي ، كما استبدلوا «العدو الأخضر» الإسلامي «بـالعدو الأحمر» الشيوعي .

       فأمة الإسلام أولى بالتكتل الإسلامي ، حتى تتخلّص عن التبعيّة الذليلة للغرب وأمريكا بالذات ، وحتى تتخلص يومًا ما من نفاق «الأمم المتحدة» التي هي جارية مهينة بيد الصهاينة والأمريكان والغرب ، وحتى يكون تقرير مصيرها بيدها ، وحتى تكون صاحبة الخيار في الأخذ والردّ ، ولاتبقى رهينة القرار الغربي الأمريكي الصهيوني في كل من شؤونها الداخلية والخارجيّة ، حتى في شؤونها الدينية وأعمالها الخيريّة ومناهجها التعليمية وأساليب عبادتها !! . يجب أن لاتصّر الأمة على أخطاء الماضي الفادحة ، وأن لاتدس عنقها في الرمال كالنعامة نجاة من الأخطار؛ يجب أن تكون صادقة مع نفسها ، ومع تاريخها ، ومع ماضيها المجيد ، وفي شأن مواجهة الواقع بأسلحة الحاضر الماضية لا بالأسلحة القديمة التي ولّى دورُها .

       الوحدة الواقعية الشاملة الصادقة الحيّة الفاعلة النابضة هي حاجة الأمة الحاضرة والقادمة . وهي حقيقة يتطلب منها الواقعُ والإيمان ، والعقيدة والقرآن . ولا معدى لها عنها إذا أرادت الحياة ، واختارت البقاء ، ورضيت بمقاومة أعداء الله ورسوله .

 

(تحريرًا في الساعة :3011 من صباح يوم الأربعاء : 18/ربيع الثاني 1427هـ = 17/ مايو 2006م)

نور عالم خليل الأميني

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1427هـ = يونيو 2006م ، العـدد : 5 ، السنـة : 30.